المياه الفلسطينيّة: من السيطرة إلى الضمّ | فصل

خربة الحلاوة - الخليل

 

يحاول كتاب الباحث الفلسطينيّ عبد الرحمن التميمي «المياه الفلسطينيّة: من السيطرة إلى الضمّ»، الصادر عام 2021 عن «مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة»، أن يربط البعد المائيّ الفنّيّ بالبعد السياسيّ الجيوستراتيجيّ من خلال تحليل الرؤية الصهيونيّة لأهمّيّة المياه في المشروع الصهيونيّ. إذ تمّ الربط بين المشروع الصهيونيّ والسيطرة على الأرض والمياه معًا.

تضمّن الكتاب تسعة فصول تناولت الموضوعات الآتية؛ لمحة تاريخيّة عن إدارة المياه عبر التاريخ من الحقبة العثمانيّة حتّى قيام السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، مصادر المياه التقليديّة وغير التقليديّة في فلسطين، المرجعيّات السياسيّة والقانونيّة والمؤسّساتيّة لقطاع المياه الفلسطينيّ، المياه في القانون الدوليّ، السياسة الإسرائيليّة وتجربة المفاوضات، نماذج المشاريع الإقليميّة وخدمتها للرؤية الإسرائيليّة، الآثار المترتّبة على بناء جدار الفصل العنصريّ، خطّة الضمّ للسيطرة على المياه الفلسطينيّة بالكامل، واستشراف المستقبل من خلال الماضي والحاضر.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب يتناول بناء الجدار الفصل العنصريّ بإذن من الكاتب.

 


 

جدار الفصل العنصريّ

إنّ البناء المادّيّ للجدار جديد، إلّا أنّ الغرض من وراء بناءه قديم، وطريق الجدار الّتي ما زالت في المرحلة الأولى في شمال الضفّة الغربيّة لم تأتِ بمحض المصادفة على الإطلاق، سواءً في الاتّجاه الّذي تسلكه، أو في كونها أوّل منطقة يتمّ استهدافها لبناء الجدار عليها، بسبب كون المرحلة الأولى من الجدار تتمّ في المنطقة الّتي jتضمّ الحوض الغربيّ الّذي يعدّ أكبر مصدر للمياه في فلسطين التاريخيّة بعد نهر الأردن.

تشير السياسة الإسرائيليّة القديمة والحديثة والخطابات العامّة للسياسيّين وخبراء المياه، إضافة إلى التنفيذ العمليّ على عدّة مستويات، إلى السيطرة الإسرائيليّة التامّة والمخطّط لها على الحوض الغربيّ، الّتي أصبحت ممكنة الآن بواسطة بناء الجدار.

ليس من السهل فهم السياسة والممارسة الإسرائيليّة الاحتلاليّة في ما يتعلّق بالمياه من دون النظر إلى الأيديولوجيّة الصهيونيّة ومفاعيل المشروع الاستيطانيّ الّتي سبقت تأسيس دولة إسرائيل.

كانت السيطرة على الأرض ومصادر المياه العذبة معايير أساسيّة لانتقاء الأراضي الّتي ستقام عليها المستوطنات اليهوديّة من أجل تحقيق الحلم الصهيونيّ...

عند العودة إلى الثلاثينات عندما بدأت حشود كبيرة من المستوطنين بالقدوم إلى فلسطين، سادت شعارات مثل "لنجعل الصحراء تزهر"، تدعو اليهود إلى القيام بالعمل في الأرض، وأن يجعل العمّال اليهود ’أرض الميعاد‘ خصبة – على الرغم من أنّها كانت خصبة آنذاك - جاعلين بذلك من الأرض والماء عناصر بالغة الأهمّيّة بالنسبة للمشروع الاستعماريّ. لم تبق النظريّة بالطبع على حالها، بل تقلّبت ونُفِّذَتْ بشكل ثابت بعدّة طرق. على سبيل المثال، كانت السيطرة على الأرض ومصادر المياه العذبة معايير أساسيّة لانتقاء الأراضي الّتي ستقام عليها المستوطنات اليهوديّة من أجل تحقيق الحلم الصهيونيّ.

بدأ التطبيق الأكثر بروزًا وأهمّيّة للنظريّة مع تأسيس دولة إسرائيل، حيث بدأ العمل بالخطط والمبادرات الفوريّة لتأسيس وتطوير مشاريع وطنيّة للمياه على نطاق واسع، مثل «شركة المياه الإسرائيليّة» (Mekorot) والمشاريع في منطقة الحولة، وتنوّع عيون الماء في طبريّا. مع ازدياد عدد السكّان اليهود وازدياد مستوى ومتطلّبات الحياة والنموّ الاقتصاديّ، وبسبب البرامج الأيديولوجيّة الإسرائيليّة المستمرّة لجلب اليهود من جميع أرجاء العالم إلى المنطقة، فقد ازداد كذلك الطلب على المياه، وأصبح الاهتمام بالمياه الجوفيّة مصدرًا أساسيًّا للمياه أمرًا له الأسبقيّة، وتحوّل الاهتمام فورًا إلى المنطقة الأساسيّة الّتي من المتوقّع أن تحوي مصادر لآبار جوفيّة، وهي منطقة الحوض الغربيّ، أو كما تسمّيها إسرائيل «الحوض الجبليّ».

 

الحوض الغربيّ منذ الاحتلال الإسرائيليّ عام 1967

إنّ سياسة إسرائيل في مصادرة الأرض والمياه ليست عشوائيّة، بل تسير وفق خطّة إستراتيجيّة منظّمة، وليست سياسة ردّ فعل على التطوّرات السياسيّة، حيث يظهر ذلك في موقف وتوجّه السياسيّين وخبراء الماء الإسرائيليّين الموحّد والمكمّل بعضه لبعض، إذ يشكّل هؤلاء أساس فرق المفاوضات الإسرائيليّة والمفوّضين والساسة والباحثين، مثال ذلك الموقف الإسرائيليّ في المفاوضات المصريّة – الإسرائيليّة الّتي تمّت في كامب ديفيد في أواخر السبعينات حيث صرّح الإسرائيليّون بكلّ وضوح عن رغبتهم في السيطرة على الحوض الغربيّ، وفي فترات لاحقة وضمن نفس النيّة والرغبة تحدّث وزراء الزراعة والبنية التحتيّة والدفاع الإسرائيليّ وخطّطوا بشكل صريح للسيطرة على الحوض الغربيّ.

اتّخذ دمج السياسة مع الدعاية السياسيّة الحيويّة مستوًى شعبيًّا في أواخر التسعينات عندما قام وزير الزراعة في ذلك الوقت، رفائيل إيتان، بتنظيم حملة دعاية عامّة مدفوعة الثمن في صحيفة إسرائيليّة نيابة عن الوزارة، يدعو فيه الإسرائيليّين إلى "عدم التخلّي" عن جزء من الحوض الغربيّ الموجود في الضفّة الغربيّة، قائلًا: "إنّ هذا الحوض يعدّ جزءًا من أمن إسرائيل المائيّ". وقدّم وزير الدفاع إسحق مردخاي بين (1996-1998) مسوّدة خريطة خلال فترة الاجتماعات والمفاوضات الّتي جرت مع السلطة الفلسطينيّة، تطالب أن تكون الحدود الشرقيّة لإسرائيل متساوية ومترادفة مع المياه الجوفيّة في الضفّة الغربيّة، شاملة بذلك الحوض الغربيّ بأكمله، وبالتالي تضمّ جزءًا كبيرًا من الأراضي المحتلّة إلى حدود إسرائيل، وثمّة أمثلة كثيرة على ذلك.

إنّ سياسة إسرائيل في مصادرة الأرض والمياه ليست عشوائيّة، بل تسير وفق خطّة إستراتيجيّة منظّمة، وليست سياسة رد فعليّة على التطوّرات السياسيّة...

لم يصبح التوجّه نحو السيطرة على المياه أقلّ وضوحًا، كما لم يتراجع أو يتوقّف بأيّ شكل من الأشكال منذ أوسلو، حيث تلقّى الفلسطينيّون منذ 1993 إذنًا واحدًا فقط من إسرائيل للقيام بحفر بئر في الحوض الغربيّ، ممّا يؤكّد على حقيقة استمرار الاحتلال والسيطرة الإسرائيليّة على المصادر الفلسطينيّة وعلى حقّ الفلسطينيّين في تقرير مصيرهم، ومصلحة إسرائيل في الحوض الغربيّ.

 

«المياه الفلسطينيّة: من السيطرة إلى الضمّ» (2021)

 

أمّا بالنسبة للحوض الشرقيّ والممارسات في غزّة فقد كانت إسرائيل أقلّ ليونة في ما يتعلّق  بقوانينها وأنظمتها بالنسبة للسماح للفلسطينيّين بحفر آبار في هذه المناطق. إذا أخذنا أريحا مثالًا، فقد قام الفلسطينيّون ببناء آبار  ’منتهكين‘ بذلك شروط الحفر في «اتّفاقيّة أوسلو»، ومع ذلك لم تحرّك إسرائيل ساكنًا، ولم تقم بالردّ على مثل هذا الانتهاك بأن تقوم مثلًا بتدمير هذه الآبار، على عكس ما فعلت عندما حفر الفلسطينيّون عددًا من الآبار في مناطق جنين وطولكرم وردمتها إسرائيل في غضون أيّام. يبقى السؤال الكبير: لماذا تتعامل إسرائيل بهذه الازدواجيّة؟ إنّ الفرق الشاسع بين سياسة وأعمال إسرائيل في الحوض الغربيّ وبين غيره من المصادر الأقلّ وفرة في المياه يؤكّد على أهداف ونوايا إسرائيل في ما يتعلّق بالحوض الغربيّ.

 

المياه لريّ التوسّع الاستيطانيّ 

ترتبط السيطرة على مصادر المياه بشكل كبير بالوجود الإسرائيليّ - اليهوديّ في الأراضي المحتلّة من خلال المستوطنات، إضافة إلى عمليّات مصادرة الأراضي الضخمة، وتوسّع السيطرة العسكريّة في المناطق الفلسطينيّة، ووجود الجناح اليمينيّ المتطرّف وجماعاته المسلّحة الّتي تعتبر المستوطنات الإسرائيليّة جزءًا "مهمًّا من السيطرة الإسرائيليّة على المياه". وقد تمّ دمج وتوحيد المستوطنات الواقعة في منطقة الحوض الغربيّ مثل مستوطنة بركان وياكير، والمستوطنات الصناعيّة الواقعة قرب مستوطنة آرئيل، مع البنية التحتيّة للماء داخل الخطّ الأخضر من خلال أنابيب ومحطّات الضخّ. يعمل هذا الدمج من المنظور العمليّ والسياسيّ على توحيد البنية التحتيّة الإسرائيليّة من جهتيّ الخط الأخضر، ممّا يجعل من منطقة الحوض الغربيّ خاضعة فعليًّا للسيطرة الإسرائيليّة، وتعمل السيطرة التكنيكيّة الكاملة بالطبع على ضمان الإدارة الكاملة للحوض.

يجب النظر إلى حجم البنية التحتيّة لمعرفة السياسة الإسرائيليّة والتطوّرات المستقبليّة، مثال ذلك الأنبوب الّذي تمّ تركيبه لربط مستوطنة بركان والمستوطنات المتناثرة حولها بإسرائيل، حيث كان الأنبوب الّذي يبلغ قطره 24 إنشًا بحاجة إلى كمّية كبيرة من المياه لتدفع تدفّق المياه عبره، وعند النظر إلى منسوب المياه الّتي من الممكن أن تمرّ عبر الأنبوب فإنّ استهلاك المستوطنة للمياه لا يساوي عشر هذه الكمّيّة الكبيرة الّتي ستمرّ فيه. بالرغم من كون هذا الاستعمال للمياه مبالغ فيه الآن، إلّا أنّه يعدّ من وجهة النظر التوسّعيّة الإسرائيليّة استثمارًا جيّدًا. إنّ التخطيط والتنفيذ طويل الأمد يأخذ بالاعتبار الحاجة والاستهلاك المستقبليّ لمياه الحوض الغربيّ في الثلاثين - أربعين سنة القادمة. تستمرّ إسرائيل قدمًا في وضع البنية التحتيّة كما لو أنّ الحوض الغربيّ سيكون بدون شكّ تحت سيطرتها.

 


 

عبد الرحمن التميمي

 

 

 

حائز على درجة الدكتوراه في هندسة المياه وماجستير في الدراسات الدوليّة. يشغل منصب مدير عام «جمعيّة الهيدرولوجيّين الفلسطينيّين»، ويدرّس في «جامعة القدس» و«الجامعة العربيّة الأمريكيّة».